الريح العقيم(الجزء الرابع)

 



                     

                    الريح العقيم

                                   رواية 

                              الجزء الرابع

               محمد حمودة زلوم

                   

عندما عاد جابر إلى بيته كان الليل قد أرخى سدوله، استقبلته زوجته بالترحاب.

- الله يعطيك العافية

- بارك الله فيك

- كيف كمال؟

-إنه بخير وعافية ودائماً يردد بابا بابا

وصل إلى الغرفة توقف عند سرير الطفل، فضاحكه ثم حمله وصار يداعبه حتى ابتسم الطفل ابتسامة سحبت كل أثر التعب من وجه أبيه الحاني وقال وهو ينظر إليه برقة:

-لقد اشتريك لك يا بطل مزرعة

قالت ليلى:

-أين؟

-على طريق جرش وإن شاء الله يوم الجمعة تقضي بها يومنا

رجع أبو راشد إلى بيته، فرحبت به زوجته فبادرها:

-لقد استرحنا من المزرعة

قالت موافقة:

- عملت خيراً، فقد تقدم بنا العمر، وأنا مريضة وأنت لم تعد قادراً على متابعة أمورها، والأولاد الله يهديهم لا يحبون حتى الذهاب إليها

قال موافقاً:

-ولهذا بعتها... ولكن أتدرين بكم؟

قالت مستفسرة:

- بكم؟

قال وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

-بفيلا

وقص عليها ما جرى بينه وبين جابر

فقالت ضاحكة:

- إذن القبعة بالربعة

-نعم

كان جابر أكبر أخوته الثلاثة عمران وصالح وصدقي الأصغر، كان صدقي يعمل في عيادة طبيب أسنان في شارع السعادة. تعرف إليه جابر من خلال أخيه صدقي، ومع الأيام نمت بينهما صداقة متينة.

يأتي الطبيب ويُدعى طلال أسعد إلى مكتب جابر فيتحادثان في أمور كثيرة يغلب عليها الطابع الشخصي.

وكثيراً ما كان الطبيب يصر على جابر أن يزوره في بيته، وأمام إلحاح الطبيب قال جابر موافقاً على دعوة الطبيب:

-حسناً سالبي دعوتك بعد غد إن شاء الله.

قال الطبيب:

-زيارتك يا أخ جابر شرف كبير لنا

******

وصل جابر منزل الطبيب، كان بيتاً لا يليق بمكانة طبيب، بيت عادي، أثاث عادي جداُ.

قال الطبيب:

- زارنا الهنا... أهلاً وسهلاً

- بارك الله فيك

تركه الطبيب ودخل ليطلب من زوجته إعداد واجب الضيافة.

سرح جابر في تفكيره في أمر هذا الطبيب الذي يعيش في بيت متواضع، وأيقن أن الطبيب تغلف حياته سر يكمن وراء ما هو عليه من ضيق مادي.

وقطع أفكاره صوت الطبيب يقول:

-أهلاً وسهلاً

تابع الطبيب وقد قرأ ما في عيني جابر من تساؤلات

-أهذا بيت طبيب؟

قال جابر ليخفف العبء عن محدثه فقال:

-الله يخلق العود ثم يُلبسه الأوراق والثمار ولكن هل العيادة تدر دخلاً جيداً؟

قال الطبيب بأسى:

- إنها تدر دخلاً طيباً، وتقول طالما أنها تدر دخلاً ممتازاً فلماذا تعيش في بيت بسيط لا يليق بطبيب معروف؟

صار جابر متشوقاً ليعرف السر الذي يجعل الطبيب يرضى بالعيش بهذا البيت البسيط.

قال الطبيب بحزن وأسى:

- منذ خمس سنوات وأمي تعاني من مرض عضال، دخلت أكثر من عملية لاستئصال هذا الورم الخبيث منها، كلفنا مبالغ طائلة، عدا الأدوية، أضف إلى ذلك كله مصاريف بيت أبي فليس له مُعيناً بعد الله غيري، أضف إلى ذلك مصاريف بيتي والعيادة وأجرة السكرتير الأخ صدقي.

قال له جابر وهو يتنهد تنهيدة خرجت من أعماق قلبه الذي نما على جدرانه الأسى والحزن، فقال مواسياً:

-الله يكون في عونك

في تلك اللحظة دخلت زوجة الطبيب تحمل صينية عليها إبريق شاي وثلاث كاسات من النوع الفاخر.

فقال زوجها يحثها على الدخول:

-أدخلي الأخ جابر منا وفينا لا غريب إلا الشيطان

قالت نادية:

- مساء الخير، أهلاً وسهلاً

قال طلال أسعد:

-اجلسي

فجلست وأخذت تصب الشاي وهي تقول:

-عفواً أستاذ جابر كم ملعقة من السكر؟

-اثنتين

قال طلال أسعد:

-إن نادية تدرس في الجامعة، وقد نجحت في امتحان الشامل في كليات المجتمع وحصلت على معدل أهلها للتجسير، فهي الآن سنة ثالثة أدب عربي

قال جابر:

- ما شاء الله

كانت نادية تتحدث وكأنها تعرفه من زمن بعيد، فيما كانت بثيابها الخفيفة الشفافة التي تظهر جمال عُنقها وشيئاً من صدرها بينما تركت شعرها الأشقر ينسدل على كتفيها وبضع خصلات من الشعر ترف على جبينها فيزدها ألقاً وجمالاً.

استأذن طلال وهو يغادر غرفة الضيوف ليحضر علبة سجايره كان جابر شارد الذهن، والمرأة تحدثه عن الجامعة والدروس، كانت كثيراً ما تترك عينيها لتحدق في عينيه، فيعمد إلى تحويل نظراته عنها.

قال وهي تحدق في عينيه:

-إن طلال يحبك كثيراً... ودائماً يحدثني عنك حتى تشوقت لأراك.

قال وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

-كيف وجدتني؟

محدقاً في عينيها العسليتين ثم تابعت وهي تغرس عينيها في عينيه:

-كنت اظنك في خريف العمر، فأنت شاب مليء بالحيوية والرقة 

في تلك اللحظة دخل طلال قائلاً:

-أهلاً وسهلاً 

وقفت نادية وهي ترفع خصلات شعرها وقد رفعت عينيها قائلة:

-استأذن

قال طلال مداعباُ:

-هاتي ما عندنا للضيف

قالت وقد بدا على وجهها الحرج:

-والله نسيت حالاً سيكون كل شيء جاهزاً

قال طلال:

-كم كنت أود إسعادها، لكن ما باليد حيلة

قال جابر:

-أسأل الله أن تكونا سعيدين

في تلك اللحظة دخلت نادية حاملة طبقاً عليه ثلاثة صحون من النوع الفاخر ملأى بالعنب والتفاح والموز، ووضعت أمام جابر طبقاً ثم أمام زوجها وطبقاً لها.

تناول جابر بضع حبات من العنب ودفعها في فمه، ثم توقف فقال طلال حاثاً جابر على متابعة تناول الفاكهة:

-كُل يا رجل

-الله يديمها نعمة

قالت نادية وهي تتناول من صحن جابر تفاحة حمراء.

-خذها من يدي

قال طلال:

-لا تكسف المرأة اقبلها.

قال جابر وهو يتناول التفاحة:

-شكرا

خرج جابر من بيت الطبيب، وفي رأسه تدور أفكار شتى، ووجه نادية المشرق وعيناها الساحرتان شيء لا يقاوم.

حاول أن يطرد الأفكار من رأسه لكن بدون جدوى... نادية وحديثها لا يزالان يسيطران على تفكيره.

نام في تلك الليلة وطيف نادية لا يزال ماثلاً في مخيلته

يتبع ..........


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

قراءة لرواية انفاس الخزامى

صباح الطاقة الايجابية