الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

الريح العقيم

رواية

الفصل الاول

محمد حمودة زلوم

كان أبو جابر يجلس وحيداً يفكر بما آل إليه، فقد استبد به مرض عضال، لا يستطيع معه حراكاً، استنفذ المرض دخله الضئيل، وتراكمت عليه الديوان، تنهد تنهيدة خرجت من أعماقه بحرقة وأسى ثم قال يحدث نفسه كالتائه: 
أنا أبو جابر، من كان يعيش عيشة رغدة أسير في الدنيا مزهواً كطاووس، جيبي عامرة بالمال، هكذا أصبح لا أمتلك شروى نقير، أعيش على صدقات المحسنين، وفجأة تملكه شعور مرعب فهطلت دموعه واجهش بالبكاء.
سمعت زوجته أم جابر صوت إجهاشه في البكاء فدخلت عليه لترى سر بكائه فقالت بخوف: 
-خير يا أبو جابر
لم ينبس ببنت شفة، بل كتم صوت بكائه وهو يهز رأسه بحزن قالت زوجته تطمئنه وقد عرفت سر بكائه وحزنه:
-توكل على الله يا رجل ما بعد الضيق إلا الفرج...
فرد عليها وهو يضرب كفاً بكف:
-أنا أبو جابر، الذي كنت موظفاً رفيعاً، وكان لي جاه وصولجان... وكان ... أصبح هكذا، جثة هامدة بلا حراك.
قالت زوجته وهي تداري دمعه تتأرجح في عينيها:
-صلي على النبي لا يبقى على ما هو إلا هو.
قال وقد راقت نفسه بعض الشيء:
-الحمد لله على كل حال.
انشرحت أسارير وجهها وهي تقول:
-الحمد لله.
ثم استطردت قائلة بلهفة:
- غداً يتخرج ولدنا جابر من الجامعة ويتحمل عنك العبء وترتاح من الدين وهمه.
-الله كريم أسأل الله أن لا يذهب تعبه سداً.
نظرت إليه فوجدته قد أسبل عينيه وراح في نوم عميق ثم ذهبت وأحضرت لحافاً خفيف وألقته عليه.
عاد جابر فرحاً مسروراً، فقد دخل البيت مختالاً يفيض وجهه بالسعادة، رأته أمه  فأدركت أن بكرها عاد حاملاً البشرى. فقالت:
-نجحت؟!
فقال وابتسامة عريضة تزهر على فمه، فأشرق وجهه وقال في فرح:
- نعم بتقدير ممتاز
لم تتمالك نفسها من الفرح فضمته إلى صدرها تُقبله، ثم أطلقت زغرودة تفيض فرحاً.
سمع أبو جابر زغاريد زوجته، فقام من فراشه متكئ على عصاه فأقبل وابتسامة تعلو شفتيه وهو يقول:
-الحمد لله... الحمد لله.
أسرع جابر إلى أبيه وقبل يده، فضمه أبوه إلى صدره والدموع تملأ عينيه وهو يقول:
-الحمد لله الذي لم يذهب تعبك سدى.
قال جابر:
-كل ذلك بفضل دعائك ودعاء أمي.
سمع الجيران زغاريد أم جابر، فجاؤوا يستطلعون الخبر، قالت الجارة أم سلطان بفضول:
-خير إن شاء الله
أجابت أم جابر بفخر:
-نجح جابر.
-الف الف مبروك.
ثم أردفت الجارة بفرح وأنا سأوزع الحلوى بهذه المناسبة الجميلة.
جابر حصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ، وهذه الشهادة تؤهله لكي يكون معلماً في إحدى المدارس الثانوية.
كان ذلك يثير في نفسه الكراهية، هو لا يحب مهنة التعليم، وليس لديه الصبر على مقارعة التلاميذ، وهموم تجهيز الدروس، وتصحيح الأوراق، ومرافقة الطباشير.
كان يود لو كان مهندساً أو طبيباً، لكن معدله في الثانوية لا يؤهله لدراسة الهندسة أو الطب.
ولكن خشي إن قال لأبويه عما يعلج في نفسه يسبب لهما أرقاً وخوفاً.
عندما التم شمل الأسرة في المساء، قال أبو جابر:
-غداً الأستاذ جابر نراه مدرساً كبير في مدرسة الزرقاء الثانوية.
امتعض جابر ولكنه اخفى شعوره وأردف قائلاً:
-إن شاء الله.
قال أبوه:
-أو معلماً في السعودية مثل ابن عمك الأستاذ سعود، فإنه منذ أن سافر إلى السعودية فقد نشل عائلته، بنى أبوه بيتاً فخماً في الزرقاء الجديدة، تزوج، وفي العطلة الصيفية يأتي محملاً بالهدايا والمال الوفير، وعمك أبو مسعود في نعمة وراحة بال.
قال جابر بامتعاض:
-تدريس وغربة!!
قال أبوه:
-نحن بالتفكير والله في التدبير
قالت الأم موافقة:
-الله كريم
لم ينم جابر في تلك الليلة، وترك لخياله العنان، أنا بحاجة إلى عمل يعود بالكسب الوفير، وراتب المعلم ضئيل لا يسد رمقاً، فأنا أعرف المعلمين، الذين يعيشون عيشة بسيطة بينما أصحاب الأعمال الحرة في بحبوحة من العيش، يمتلكون العمارات ويركبون السيارات الفارهة.
-يجب عليّ أن أخوض في الأعمال الحرة، ثم يصطدم تفكيره بمعضلة وهي أن الأعمال الحرة تحتاج إلى رأس مال، والمال مفقود، فكيف السبيل؟
هداه تفكيره أن يعمل كمراقب عمال عند أحد المقاولين وعلى كل حال سيكون أوفر حظاً مما يتقاضاه المعلم.
  أبو شاكر،  سأذهب إلى أبي شاكر وسأطلب من ابنه شاكر صديقي من أيام الدراسة أن يحدث أباه فيوظفني عند أبيه كمراقب عمال.
راقت له الفكرة، فشعر بالاطمئنان ثم استسلم لسلطان النوم في هدأة الليل، حيث الصمت يعانق الوجود.
كان جابر مستيقظاً في سريره، وضوء القمر الخافت يتسلل إلى غرفته سرح في خياله على أجنحة وردية، فتخيل نفسه يعمل مع أبي شاكر، إنها مهمة سهلة، ما عليه إلا أن يراقب العمال، ويراقب عملهم ويحثهم على العمل ويتأكد من سير الأمور، عمل الطوبار، وضع الحديد حسب المواصفات، الباطون....
ثم ما لبث أن تسلل النوم ليغرق في نوم عميق.
في الصباح أفاق على صياح الديكة، وأشعة الشمس تغازل عينيه فنهض بتثاقل لأنه تأخر في النوم، غسل وجهه، ثم سار بخفة إلى غرفة أبيه، كان أبوه يقظاً في فراشه:
-صباح الخير يا أبي.
-صباح الخير.
-كيف الحال؟
-الحمد لله يرضى عليك.
-هل تناولت الدواء؟
-ليس بعد.
توجه جابر نحو خزانة الأدوية، وتناول علبة الدواء ثم صب الماء في كأس كانت موجودة على طاولة قرب سرير أبيه، ناول أباه حبة دواء وضع الأب في فمه ثم تناول كأس الماء فبلع الأب قرص الدواء، واتبعه الشرب من الكأس وهو يقول:
-الله يرضى عليك يا جابر، الله يوفقك ويبعد عنك أولاد الحرام.
-فيه الشفا
في تلك اللحظة دخلت أم جابر وابتسامة تضيء وجهها فقالت:
-صباح الخير
ذهبت نحو خزانة الأدوية فقال أبو جابر:
-جابر الله يرضى عليه أسقاني الدواء.
قالت أم جابر:
-الله يرضى عليه.
قال أبو جابر:
-آمين يا رب العالمين
بعد أن تناول جابر فطوره لبس ملابسه، مشط شعره، ومسح حذائه، وودع والديه وهو يقول بسرور:
-دعواتكما
رد الأبوان معاً:
-الله يوفقك
عندما خرج جابر من البيت، كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف، كان الشارع يضج بالحركة، أصوات بائعي العربات تملأ المكان.
كان جابر يسير وفي رأسه تدور أمور شتى، أسئلة تنشأ ثم تذوب، وكان يحاول أن يقنع نفسه انه سيعود بالوظيفة ولكن إذا لم يتحقق حلمه، ينتفض ويحاول طرد الفكرة من رأسه.
وصل بيت أبي شاكر وفجأة تفجرت الأسئلة في نفسه، فأحس بالحرج حتى فكر بالعودة، وبينما هو في قمة الحيرة، إذا بشاكر ينزل من على درج البيت فلمح جابر فصاح:
-جابر...معقول
قال جابر:
-صباح الخير
-خير إن شاء الله... إلى أين أنت ذاهب؟
-لقد اتصل بي أبي وطلب مني أن أذهب إليه
-وأين أبوك؟
-تعرف أن أبي مقاول وهو يبني الآن عمارة في الزرقاء الجديدة. ما رأيك أن تذهب معي فالعمارة في منطقة جميلة؟
قال جابر بشوق وقد حدث نفسه إن ذلك يفسح له المجال ليطلب من شاكر ما يريد، فقال:
-على بركة الله.
ركبا السيارة معاً، وما لبثت السيارة تنطلق مسرعة إلى الزرقاء الجديدة، حيث بدأ العمران ينتشر بسرعة عجيبة، حتى تحولت المنطقة الجرداء إلى عمارات جميلة وشوارع وحدائق تعج بالحياة.
قال شاكر وقد أحس بأن جابر يريد أن يقول شيئاً:
-ما رأيك أن تعمل مع أبي كمراقب للعمال.
أخفى جابر شعوره بالفرح فها هي أمنيته تتحقق وأفاق على صوت شاكر يقول:
-قل ما بك؟ العمل مع أبي؟
قال جابر:
-كيف أكون مكانك؟
-الحقيقة أنني أريد أن أتفرغ للدراسة، وتعرف أنني لم أنجح في العام الماضي بسبب انشغالي مع أبي، وصدق أو لا تصدق فقد فاتحت أبي بأمرك فوافق.
الزرقاء الجديدة أثارت إعجاب جابر، عمارات شاهقة جميلة متناثرة، محلات تجارية على جانبي شارع (36) مدارس ومساجد كل ذلك بهر جابر فقل بدهشة في شارع 36؟!
توقفت السيارة أمام عمارة شاهقة مكونة من خمسة طوابق والطابقان والرابع والخامس يجري العمل فيهما، بناؤون يبنون وعمال الطوبار يعملون بهمة وعزم.
في الطابق الأول والثاني عمال الطراشة يدهنون الجدران بينما هم في الطابق الثالث كان عمال القصارة يقصرون الجدران والسقوف، والعمل جار بهمة ونشاط وأبو شاكر يجلس في الظل.
نزلا من السيارة وتوجهها إلى أبي شاكر الذي كان يتناول الشاي، وسحاب دخان ينبعث من فمه تتطاير سحابات الدخان لتذوب.
حينها وصل الاثنان شاكر وجابر:
فقال شاكر:
-السلام عليكم
-وعليكم السلام
سلم جابر على أبي شاكر فرحب به ترحيباً جميلاً ثم التفت أبي شاكر نحو ابنه وقال له:
-أقلت له؟
-نعم يا أبي
-أوافق
فقال شاكر:
-لا أدري
فقال أبو شاكر بهدوء:
-يا بني تعرف أن صاحبك شاكر يريد أن يلتفت إلى دراسته، لقد كان عمله معي هو السبب في عدم توفيقه بالدراسة.
  أنا أعرف السبب! إنه أنا
  أعذره، وقد أشار عليّ أن تحل مكانه فما رأيك؟
قال جابر بعد فترة صمت، وكأنه في حالة تفكير.
ولكن أبا شاكر قطع عليه حبل تفكيره وقال:
-أركن عليك
قال جابر وهو يداري موجة الفرح التي غمرت قلبه :
-يشرفني أن أخدم العم أبا شاكر.
-إذن على بركة الله
قال جابر بحياء:
-ومتى أباشر العمل؟
قال أبو شاكر وبسمة عريضة ترسم وجهه:
-من الآن إن شئت
قال جابر مستفهماً عن طبيعة عمله، وما عليه من واجبات حتى يكون على بينة ويبيض وجهه مع أبي شاكر فقال:
-عمي ما هو المطلوب مني؟
-المطلوب منك الإشراف على العمل المخططات ستكون معك، وكل ما عليك أن تتأكد أن عمال البناء يسيرون وفق المخططات، والمخططات واضحة، وتتأكد من كميات الاسمنت في الخلاطة والحديد في الأعمدة والسقوف كما لا تنسى حث العمال مداومة العمل ومراقبة نقصان المواد والعمل على توفيرها، ليبقى العمل مستمراً، على كل حال شاكر سيقوم باطلاعك على كل الأمور التي تتعلق بواجبك.
فقال جابر:
-أرجو أن أكون عند حسن ظنك.
أخذ شاكر يشرح كيفية إدارة المشاريع الإنشائية، وجابر يستمع إليه بانتباه وحذر وساعد شاكر على الوقوف على أسرار العملية من خلال عمل والده، والذي كان يعمل في رسم المخططات الإنشائية للمهندسين في مكتبه.
قال شاكر وهو يحدق في عيني جابر:
-أهم شيء في العمل، العمل الصحيح وعدم التراخي والإصرار على أن يكون العمل على أتم وجه حتى تكسب ثقة الناس وكما تعلم أن الصدق في المواعيد والصدق في العمل وعدم التلاعب بالمواد هو سر نجاح والدي.
قال جابر:
-أعرف أن والدك يتمتع بسمعة طيبة في مجال الإنشاءات.
قال شاكر:
-لولا ثقة والدي الكبيرة بك لما اختارك.
فقال جابر:
-توكل على الله
عندما عاد جابر إلى البيت كان يسير بخيلاء، فقد نال ما يتمنى وفتحت له أبواب السعادة والأمل، دخل البيت وكانت أمه أول ما رآها، فقالت متسائلة:
-أين كنت؟ لقد أزعجنا تأخرك.
انحنى على يديها يقبلها وهو يقول:
-دعواتك يا أمي، لقد وجدت وظيفة عند أبي شاكر المقاول الكبير أبو صاحبي شاكر.
ثم أردف:
كيف حال أبي؟!
-إنه بخير.
ثم توجه الاثنان إلى غرفة الأب 
كان الأب يستمع إلى الحديث الذي كان يدور بين زوجته وولده، فتهللت أساريره، ولما دخلت الأم وولدها والابتسامات تشرق على وجهيهما أسرع جابر على أبيه يقبل يده:
قال الأب:
-الحمد لله، الله يوفقك يا ولدي
ثم أردف قائلاً:
-إن أبا شاكر رجل نظيف وسمعته في المقاولات طيبة
قبل شروق الشمس كان جابر متجهزاً للذهاب إلى عمله صوب الزرقاء الجديدة، ركب سيارة الأجرة وعندما وصل كان أبو شاكر يباشر العمال، فما أن أقبل جابر حتى بادره بالسلام، ثم أردف موجهاً كلامه إلى العمال والبنائين:
-هذا جابر وهو المشرف الجديد أرجوا أن تتعاونوا معه
قال معلم البناء:
-حياه الله وإن شاء سنكون عند حسن ظنك
ثم التفت أبو شاكر نحو جابر وقال له:
-توكل على الله
ثم أردف بعد برهة وجيزة
-سأغادر الورشة الآن لأن عندي بعض الالتزامات أريد إتمامها.
ثم ودع جابر العمال قائلاً:
-الله يعطيكم العافية... السلام عليكم
وركب سيارته وانطلق إلى مهمته.
طاف جابر في أنحاء العمارة، يحيي العمال ويراقب عملهم وكان كلما مر بمجموعة يحييهم ويرحبون به.
كان يقف مع معلم البناء، ويستفسر منه عن الحجر وما نوعه وما صفاته ومعلم البناء يجيب على أسئلته بسعة صدر، ثم يقف عند عمال الباطون ويتأكد من الكميات والعمال يعملون بهمة ونشاط سأل عن كميات الحديد الموجودة والاسمنت والرمل، وكان يدون النقص أو الزيادة في المواد.
كان جابر فرحاً سعيداً بعمله، أبو شاكر صار يسند إليه الأمور كاملة، شراء المواد، محاسبة (العمال، المهندسين والبنائين) ومع مرور الأيام كانت ثقة أبي شاكر تزداد به.
 فكان المتصرف، والآمر الناهي في كل أمور مقاولات أبي شاكر وكان أبو شاكر في كل فترة وفترة يزيد في أجره حتى وصل ما يتقاضاه ثلاثمئة دينار، إضافة إلى المبالغ التي يهديها إليه أبو شاكر عند إنجازه أي عمل.
مضت سنتان وجابر يقوم بدوره على أتم وجه.
أم جابر في غرفتها ساهمة شاردة الذهن تفكر في حال زوجها المضطربة، وحالته من سيء إلى أسوأ، وجابر ابنها البكر جاوز الخامسة والعشرين من عمره، فقد ضحى من أجل والده الشيء الكثير، لماذا لا يتزوج، يجب إنهاء الأمر حتى يفرح به أبوه قبل أن تخطفه يد الموت.
راقت لها الفكرة، ودخلت غرفة جابر الذي كان مشغولاً في عمل كشف الحسابات.
قالت الأم بحنان:
-أراك مشغولاً يا ولدي
قال لها برقة بعد أن نحى الدفاتر جانباً:
-أهلاً بك يسرني الجلوس معك
-الله يرضى عليك يا ولدي
ثم أردفت والبسمة تنير وجهها الذي حددته السنون، والهموم والمرض.
-اسمع يا ولدي لقد كبرت، وإن من هم أصغر منك سناً تزوجوا، وخلفوا الصبيان، ونريد أن نفرح بك قبل موتنا .
قال جابر بسرعة:
-بعد عمر طويل إن شاء الله.
قالت الأم بمرارة:
-والدك في حالة لا تُطمئن، وأنا كذلك مريضة ونريد أن نفرح بك
لم يفكر جابر بمسألة الزواج، وها هي أمه تقنعه في موقف حرج.
ولكن كيف السبيل إلى إرضائها، وأمام إلحاح أمه قال لها:
-لك ما تشائين يا أمي العزيزة.
-حسناً، سأبحث لك عن عروس تليق بك.
خرجت أم جابر فرحة بنجاح ما سعت إليه ثم تركت لخيالها العنان تقلب دفاتر عقلها بحثاً عن عروس جميلة من أصل طيب، أهلها يرفعون الرأس، وخطرت في ذاكرتها فتيات كثيرات تعرفهن، حتى توقفت عند دار أبي أحمد، فأبو أحمد رجل معروف بطيبته وسيرة حميدة  بين الناس، إضافة إلى زوجته الطيبة، أما ابنتهم جوهرة فهي جوهرة بحق، جميلة وتقول للقمر انزل لاقعد مكانك، مؤدبة، وخلوقة، ومتعلمة أيضاً، غداً سأذهب إلى بيت أبيها وأفاتح أمها بالأمر وأرجو أن لا تكون مرتبطة، أو أحد تكلم بها راقت لها الفكرة وغمرها الاطمئنان والسعادة.
استقبلت أم أحمد أم جابر بترحاب كبير وهي تقول وبسمة تغمر محياها:
-أهلاً وسهلاً بالجيران الطيبين
-أهلاً بك
وتحدثت المرأتان بأمور شتى، وكأن أم أحمد بعقلية المرأة فهمت سر زيارة أم جابر وخصوصاً عندما دار الحديث عن جابر، مما جعلها تدعو ابنتها لتقول لها:
-يا ليلى سلمي على جارتنا أم جابر
أسرعت الأبنة نحو أم جابر وقالت بحياء:
-مساء الخير
-مساء النور... اللهم صل على النبي ما شاء الله
قالت أم أحمد موجهة الحديث إلى ابنتها:
-اغلي لنا فنجان من القهوة
-حاضر
أحست ليلى بطبيعة الأنثى أن أم جابر جاءت لخطبتها. فذهب إلى المرآة ورتبت شعرها ثم حملت صينية القهوة ودخلت فلما أن رأتها أم جابر حتى بادرتها بالحديث:
-ما شاء الله يا ليلى كبرت
قالت الأم:
-ليلى الأولى على طالبات صفها
قالت أم جابر:
ما شاء الله
خرجت ليلى، فقال أم جابر وقد تغيرت لهجتها:
-اسمعي يا ام أحمد يقول المثل دور لبنتك قبل ابنك
قالت أم أحمد مؤكدة:
-صحيح .
 وإنا نعرفكم تماماً كما تعرفوننا أيضاً
-وإننا نريد ابنتكم ليلى لولدنا جابر
تلعثمت الأم ثم سرعان ما أردفت قائلة:
-الله يجيب الخير... ولكن أريد أن أشاور أبا أحمد وكذلك البنت
قالت أم جابر:
-طبعاً طبعاً المهم موافقة الأب والأهم من ذلك كله موافقة البنت
شربت أم جابر فنجان القهوة قائلة:
-إن شاء الله نشربها بالأفراح
-آمين يا رب العالمين
أخبرت أم جابر ابنها جابر بما حصل معها في بيت أبي أحمد قائلة بفرح شديد:
-الله يجعلها من نصيبك
قال جابر:
-أهي حلوة؟
قالت الأم:
-عندما تراها ستعرف اختبار أمك 
-سنرى... إن وافقوا
-سيوافقون وهل سيجدون أحسن منك
كان عرس جابر حديث الناس، والتم جابر بعروسه الجميلة في جو شاعت فيه البهجة والسرور.
وكان حبه لزوجته يزيد عمقاً، لما كان يرى منها من الوفاء والحرص على إرضائه، وإرضاء والديه، فكانت تعاملهما بكل طيبة ورفق وحنان ورعايتهما ولا تتذمر من خدمتها، كانت تشعر نحوهم بالشفقة والألم لما هما فيه من معاناة بسبب مرضهما.
حملت ليلى كوب الماء لتساعد حماتها في شرب دوائها، ولما دخلت الغرفة أسقط في يدها، وارتجفت وهي نقول:
-عمتي... عمتي
لم تحرك أم جابر ساكنا، فذهبت إلى التلفون لتخبر زوجها أن يحضر بسرعة لأن أمه في غيبوبة.
جاء جابر قلقاً على أمه، نظر إلى أمه، ورش قليلاً من الماء على وجهها فحركت رأسها فقال:
-الحمد لله
ثم حملها إلى السيارة إلى أقرب طبيب.
طمأن الطبيب جابر أن أمه تعرضت إلى ذبحة صدرية، وإنها مع اخذها الدواء ستشفى بإذن الله، عاد جابر بأمه وقد هدأت نفسه، عندما رأى أمه بخير وتتحدث.
شفيت أم جابر من مرضها وهدأت النفوس لذلك.
بعد يومين عادت النوبة إلى أم جابر، وفشل الطبيب والدواء في علاجها، وما لبثت أن فارقت الحياة، فعم البيت الحزن والأسى، وكان أكثر من استبد به الحزن أبو جابر، الذي فقد رفيقة العمر والقلب الرحيم، فعاش كئيبا حزيناً.
وأخيراً نجح شاكر ونال الشهادة الجامعية، فأقيمت الأفراح وكان أول المهنئين جابر وزوجته وقدما هدية تليق بشاكر.
قال أبو شاكر وقد أشرقت على وجهه ابتسامة عريضة:
-الآن تحقق أملي بنجاح شاكر
قال جابر بفرح:
-الحمد لله
تابع أبو شاكر الحديث:
-سيكون شاكر معك في العمل
ثم صمت فترة وجيزة وتابع القول:
-لكن الأمور تبقى بيدك
لم يجب جابر ببنت شفة بل هز رأسه موافقاً
قال أبو شاكر مستفسراً عن مجريات العمل:
-وكيف الأمور تسير في العمل
-كل شيء كما تريد، أنا تربية ذراعك يا عم
في اليوم التالي، وبعد الظهر وصل شاكر إلى الورشة، كان أنيقاً يلبس بدلة وربطة عنق، سأل أحد العمال عن جابر فأخبره أنه في الطابق الثالث عند عمال القصارة.
فطلب من العامل أن يذهب إلى جابر ويطلب منه أن يأتي إليه.
فذهب العامل بسرعة نحو الطابق الثالث، وما هي دقائق حتى عاد العامل لاهثاً وهو يقول:
-إنه قادم
ما أن رأى جابر شاكر حتى قال بفرح:
-أهلاً... أهلاً.. يا أستاذ جابر
لماذا لابس كل الذي على الحبل؟
ضحك شاكر وقال:
-الله يعطيك العافية
فأخذ الاثنان يتحادثان أحاديث شتى عن الدراسة وعن العمل وعن دفاتر الذكريات القديمة.
قال شاكر:
-أريد منك مائة دينار لأرافق سمير أبي حميدان على قضاء ليلة في منتزه عمان الكبير.
قال جابر:
-أنا لا أنصحك بالذهاب لتلك الأماكن
قال شاكر:
-يا رجل إنها ليلة في العمر
قال جابر:
-أخشى أن تكون البداية المؤلمة
ضحك شاكر وهو يقول:
-صدقني إن تلك الليالي من أجمل الليالي
غناء ورقص وجميلات 
ثم أكمل جابر:
-خمر ونساء وسهر حتى الفجر
قال شاكر:
-لو تحضر حلفة، أنا متأكد أنك ستظل باشتياق لتكرارها 
قال جابر وهو يشيح بوجهه:
-أعوذ بالله ... الله يبعدنا
ناول جابر شاكر مائة دينار فأخذها وهو يقول:
-وداعاً يا صديقي
شاكر شاب ترك لنفسه العنان يجري لاهثاً وراء الملذات وقضاء الليالي الحمراء، رغم توسلات أبيه حتى يعود إلى رشده، ولكن هيهات، فإن النفوس الإنسانية إذا تعودت على شيء هان عليها الاستمرار فيه.
فرمى توسلات أبيه عرض الحائط ومضى في الطريق الوعر الشائك حتى أورث أباه مرض السكري والضغط.
حتى إنه ذات يوم شكى لجابر ما يقوم به ولده بمرارة وأسى.
قال جابر مهدئاً من روعه:
-توكل على الله، سأقوم بالحديث معه
قال أبو شاكر بتوسل:
-أرجوك، فإنك تخدمني خدمة لن أنساها لك
قال جابر مطمئناً الرجل المريض:
-توكل على الله، سأعمل إلى رده إلى الرشد
عندما التقى جابر مع شاكر في العمل:
قال جابر برفق:
-اسمع يا أخي أنت تعرف مقدار حبي لك وتعرف أنني لا أبغى لك إلا الخير
قال شاكر مستعجلاً: 
-الخلاصة ادخل في الموضوع "ماذا تريد مني"؟
قال جابر برفق:
-أرجو أن تسمعني حتى أكمل حديثي
-أنا أعرف ما ترمي إليه
قال جابر:
-إن أباك مريض وقد هده المرض وأنهكه وأخشى عليه من الموت وإذا أنت بقيت على ما أنت عليه... ستفقده، فكيف ستكون حالتك..؟ لماذا لا تلتفت إلى مستقبلك؟ الحياة بحر ومن لا يتحرك بنشاط وهمة يغرق.
أجهش  شاكر بالبكاء كطفل صغير وقال بصوت متهدج:
-والله إنك صديق حق، بل أخ كريم مخلص.
قال جابر بابتسامة لطيفة:
-إذن اتفقنا، وتعانقا
قال شاكر وهو يحدق في عيني جابر:
-إن كلماتك الصادقة غسلتني من خطاياي، لقد كانت بلسماً شفت جروحي وألبستني ثوب الندم، يا إلهي ما أروعك.
أنت أنت لم تتغير
قال شاكر بحميمة وصدق:
-الحمد لله
في المساء كان شاكر وجابر في طريقهما إلى بيت أبي شاكر الاثنان كانا فخورين بما حققاه.
فما أن رأى شاكر أباه حتى أقبل عليه يُقبل يديه ورأسه وهو يقول بصوت متهدج وقد أغرورقت عيناه بالدموع:
-سامحني يا أبي، لقد أخطأت بحقك كثير
أبو شاكر لم يحتمل الموقف فاغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول بصوت أجش:
-الحمد لله الحمد لله الشكر لك يا رب

يتبع...


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي

قراءة لرواية انفاس الخزامى