الريح العقيم ( الجزء السادس عشر)

               

                             الريح العقيم 

                                    رواية 

                      محمد حمودة زلوم 

                      الجزء السادس عشر 

 أرقَ نادية تجاهل جابر لها ولماذا ينساها وقد همس لها بأجمل كلمة في الوجود "أحبك فأنتِ ملاكي الأثير". ما هذا التحول، والصد القاتل إني أذوب شوقاً للقائه، يجب أن أقابله مهما كانت الظروف، سأواجهه لأعرف خفايا هجره القاسي، وقفت امام المرآة طويلاً وهي ترتب شعرها المجنون فتزينت.

كان جابر في مكتبه وحيداً يطالع في جريدة حينما وقفت نادية ونظرت إليه:

-آسفة لإزعاجك

وقف جابر فهوى شيء في داخله وقال متلعثماً:

-أهلاً وسهلاً... تفضلي

جلست نادية وهي تراقب حركاته وسكناته ثم قالت:

-هكذا نسيتني؟!

قال جابر:

-أبداً سرقني العمل

-أمعقول هذا.... أكثر من خمسة شهور ولا حس ولا خبر 

-كيف حالك

-حالي يرثى لها، فإنني مشتاقة لك أكثر ما تتصور

أحس جابر بشعور خفي يتملكه وأمام حديثها وغيابها قال:

-اعترف لكِ سيدتي... إني ظلمتك، كما انني ظلمت نفسي بحرماني من لقائك

غمرت نادية السعادة وقالت:

-الأمر ظاهر خمسة شهور يا قاسي القلب

-صدقيني إن طيفك كان معي

-إني أشكرك لمجيئك المفاجئ الذي ملأني سعادة لم أشعر بها من قبل

-يا قاسي القلب... لقد عذبتني

قال جابر:

-الكلام هنا معاً يتيح للفضوليين الكلام، بما لا يحمد عُقباه، ما رأيك أن تنتظريني في شارع الجيش لنذهب معاً إلى المزرعة، فالحارس استأذن مني لأن صديق له جاء من مصر ويريد أن يلتقي به ليتعرف منه على أحوال أهله؟

قال وهي تضحك:

-حسناً

دخلا البيت الريفي، فألقت حقيبتها على الكنبة، ثم خلعت جاكيتها ورمته ليستقر فوق حقيبتها وهو يغني لعبدالحليم:

-خلاص لقيته وعرفنا بيته والتم الشمل عليه... حبيب حياتي

خلع جابر جاكيته، وحل رطبة عنقه، والشوق يطفح في عينيه السوداوين، وتعانقا وهي تهمس:

-يالك من قاسي

قال لها:

-أحبك

-أموت بك

ثارت براكين الشهوة، قبلت جابر في وجهه وفي شفتيه وهي تقول بشوق:

-آه كم أحبك

أحس جابر أنه يقترب من دائرة اللهب، ابتعد عنها قليلاً فتربعت واستلقت على الكنبة الكبيرة وهي تنظر إليه وتدعوه بيديها الممتديين باتجاهه

-تعال... اقترب

شيئاً في داخله يقول له لا تقترب.

كل ما فيها يدعو للإثارة، شعرها الذي غطى جسدها الثائر، عيناها الساهمتان، لكنها تدعوه وتحثه لقطف الثمرة.

اقترب منها، وقلبه يخفق خفقاناً متسارعاً دنا منا وأخذ يقبلها، ويعبث في شعرها وهي تهمس كفى قبل شفتيها وعنقها وصدرها بينما كانت تلف ذراعيها حول رقبته...

في تلك الأثناء، أخرج نقاله موسيقى ونظر إلى المتصل، كانت زوجته على الطرف الآخر:

-أنا في المشروع بعمان، بعد ساعة أكون في البيت

قالت نادية:

-ليتنا نبقى معاً طوال الليل

-وزوجك 

-زوجي العزيز سافر أول أمس إلى دمشق لحضور مؤتمر طبي وابني أرسلته عند أمي

-هكذا إذن... غاب القط العب يا فار

بينما كان جابر يقرأ صفحة الإعلانات في الجريدة، وقعت عيناه على عطاء لبناء عمارة من خمسة طوابق، وقرأ الشروط والمواصفات فقام بكتابة رسالة للدخول في المناقصة وأرسلها بالفاكس.

بعد حوالي شهر من تاريخ إرساله الفاكس وصله رسالة من صاحب المشروع أن العطاء رسا عليه ويريدون منه المجيء إلى مكتبهم للاتفاق على الإجراءات.

كان جابر دقيقاً في مواعيده، رحب صاحب المشروع بجابر كثيراً وهو يقول:

-أهلاً وسهلاً

-وبك أكثر

-أحب أن أخبرك أن موافقتنا عليك، لما عرفناه عنك من الصدق بالعمل والإنجاز في وقت قصير

-هذه أمانة، لقد رأيت ما قمت به من مشاريع فأعجبتني كثيراً، بعد أن تشرب قهوتك نذهب معاً إلى قطعة الأرض

-على بركة الله

وقف أبو علاء، صاحب المشروع أمام قطعة أرض على الشارع العام أرض يحيط بها العمارات الشاهقة وقال:

-هذه قطعة الأرض، أريد الطابق الأرضي مخازن تجارية والطوابق الباقية أريدها مكاتب

هز جابر رأسه وقال:

-تفكيرك سليم، وبناء استثماري ناجح

-إن شاء الله

-إذن نعود إلى المكتب وأعطيك المخططات ومتى تريد بدء العمل

-أولاً نجهز ما نحتاج إليه من مواد، وننقل المعدات وفي بحر الأسبوع نبدأ بحفر الأساسات

-حسناً

في أحد أيام آب اللهاب، دخل المهندس فارس عبدالهادي (المهندس فارس يعمل مع شركة أبو نجيب) مكتب جابر ألقى السلام فقال جابر:

-أهلاً وسهلا

-أهلاً بك

-كيف أخبار أبي نجيب؟

ما كاد جابر يذكر اسم أبي نجيب حتى كست وجه المهندس سحابة حزن وغضب فقال:

-لقد تركت العمل معه

-خير

-يا أخ جابر إنه رجل طماع، غشاش، لقد حاولت مراراً أن أثنيه عن حماقاته واستغلاله ولكنه كان يرفض نصحي له، ولما رأيت إنه يزداد غشاً قررت ولهذا قررت ترك العمل معه

-أمعقول ما تقول؟!

قال المهندس فارس:

-وأكثر من ذلك

قال جابر:

-الله يهديه أرواح الناس ليست لعبة

قال المهندس فارس مؤكداً:

-لقد قلت له ذلك فقال لي أنت مسكين!! أحمد الله أنني تركت العمل معه

-وماذا ستعمل؟

-لقد قررت أن أعمل منفرداً في مكتب هندسي أقوم بإعداده 

-عال العال، وإن شاء الله سنتعاون معك في الإشراف على مشاريعنا

-أنا بالخدمة

قدم جابر لضيفه فنجان قهوة سادة:

-تفضل

-من يد لا نعدمها

بعد أن رشف المهندس فارس فنجان السادة، وقف وقال:

-إئذن لي

-الله معك

مع خروج المهندس فارس عبدالهادي من مكتب جابر دخلت الأفكار رأس جابر يحدث نفسه أن الرجل ربما يكون صادقاً، أو ربما تكون لعبة من أبي نجيب ليكون المهندس فارس عيناً لأبي نجيب، أو ربما يكون صادقاً فيما قاله على كل حال، إن احتجت إليه سأكون حريصاً على متابعة ما يقوم به عندي.

في مكتب أبي نجيب كان المهندس فارس عبدالسلام قد دخل والبسمة على فمه فقال أبو نجيب:

-قمحة أم شعيرة؟!

-قمحة، لكن سامحني يا أبا نجيب، فقد وصفتك بصفات لو كنت حاضراً لرميتني بالرصاص

قال أبو نجيب:

-هذا ليس مهماً، ولكن المهم أن يبتلع جابراً الطُعم

قال المهندس فارس:

-لقد ابتلعه.. ووعدني بالعمل معه

-إذ يا بطل في أول فرصة تسنح لك عليك بهدم أسافين نهايته... فأرينا شطارتك

في تلك الأثناء دخل الدرعي على أبي نجيب متسائلاً:

-كيف تسير الأمور؟!

قال أبو نجيب بثقة:

-لقد انطلت على جابر الحيلة

-إذن يا سادة يا كرام على جابر السلام

ضحك الثلاثة ضحكة الانتصار، وقال أبو نجيب:

-بهذه المناسبة، واخرج من درج مكتبه زجاجتا خمر-سنشرب نخب جابر

علت ضحكاتهم وكأنهم ثملوا قبل أن يشربوا، ثم أخذوا يصبون الخمر، وبعد أن عصفت رؤوسهم قال أبو نجيب وهو يصب الخمر:

-اليوم خمر وغداً أمر

حين التقى جابر المهندس عبدالفتاح قال المهندس:

-أمس رأيت عندك المهندس فارس مهندس أبي نجيب رأيته عندك، فحولت طريقي،لانني لا أحب أن أقابل هذا النوع من البشر

-الرجل مسكين، وترك أبي نجيب لأن أبا نجيب رجل يجري الغش والكذب في دمائه

-أصدقت ما زعمه؟!

-لنا نحن الظاهر أما الباطن فعلمه عند الله

-يا أخ جابر ذيل الكلب يظل أعوج

-قلت لك عندما يعمل معنا، لا تتركه وحيداً، نكون حريصين على مراقبة عملة دون أن يشعر

قال المهندس عبدالفتاح بثقة:

-سأكشف لك امره، لأن من شب على شيء شاب عليه

ثم أردف عبدالفتاح قائلاً:

-ما رأيك نجعله يشرف على إحدى العمارات، ثم نقوم بعد انصرافه وانصراف العمال بمعاينة ما تم تنفيذه؟!

قال جابر:

-حسناً، وأرجو أن يكون صادقاً

قال المهندس عبدالفتاح:

-منذ عدة أيام لم أرَ سُهير، ما الأمر؟

-لقد تركت العمل بناء على طلبها

-يوجد عندي ابن صديق لي ربما يكون أفضل من سهير

-لقد كانت سهير ممتازة

-إذاً وافقت على ابن صديقي سيكون عندك غداً

-حسناً اخبره بالمجيء غداً وسنرى عمله

-خير البر عاجله... فأخرج جواله واتصل بصديقه:

-السلام عليكم... الأخ أبو سامر

-هل وجد ابنك سامر عملاً

-إذن غداً في الثامنة صباحاً يكون في مكتب السيد جابر

-لا شكر على واجب

في مكتب جابر بينما كان جابر يقرأ في الجريدة، دخل المكتب شاب وسيم وقال:

-حضرتك السيد جابر

-نعم تفضل

قال الشاب:

- جئت بناء على طلبكم

-إذن أنت سامر

-نعم

-أهلاً بك، هل عملت في السابق عند أحد 

-لا محسوبك خريج جديد

وأخرج سامر مظروف كان معه عدداً من الشهادات والدورات:

أخذ جابر يقرأ الشهادات والتي كان التقدير فيها ممتاز قال جابر بإعجاب:

-ما شاء الله... على كل حال إن عملك يتطلب دقة، ويمكنك فتح الكمبيوتر لترى طبيعة عملنا

قال الشاب:

-يمكن أرى الكمبيوتر، لأطلع عليه

-تفضل

فتحت شاشة الكمبيوتر، وأخذ سامر ينظر باهتمام واخذ يضغط على الأزرار وبعد دقائق التفت إلى جابر وقال:

-هذا أمر سهل

قال جابر:

-إذن على بركة الله

شعر سامر بالراحة، لأن عمله سهلاً وإنه سيعمد إلى طباعة ما يطلب إليه أمر لا يحتاج إلى مشقة كبيرة.

اما جابر فقد أحس بارتياح كبير لأنه عثر على موظف يبدو على سيماته النجابة والشوق إلى العمل.


يتبع .........


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي

قراءة لرواية انفاس الخزامى