الريح العقيم (الجزء الرابع عشر )


                             الريح العقيم 

                                    رواية 

                    محمد حمودة زلوم 

                 الجزء الرابع عشر 

 في مساء اليوم التالي كان جابر في موقع العمل في ضاحية مكة، يشرف على التشطيبات النهائية في عمارة، اتصلت به نادية:

-أهلاً نادية

-مساء الخير

-مساء النور

-كيف حال الدكتور

-الدكتور بخير، فهو في العيادة، غارق في الشغل، لماذا لا تسال عن حالي؟

قال مستفسراً:

-وكيف حالك؟

لم تجب بل إنه يسمع بكاءها، فقال:

-لماذا تبكين؟

-كأنك لا تعرف!!

قال:

-والله لا أعرف.... ماذا حصل؟

-لك أكثر من شهر... لا تتصل ولا تسأل

قال في نفسه: عليّ أن أداريها، واتعلل بالأعذار فقال:

-وكيف أنسى زهرة الحب الصافي؟!

قالت وهي تتوسل:

-أرجوك أريد أن أراك، فإني في شوق لرؤيتك يا قاسي 

ضحك وقال:

-امهليني يومين فقط

قالت بدلال وهي تغني أغنية معروفة:

-والله اشتقنالك... اشتقنا لعيونك

قال جابر محدثاً نفسه:

-يجب عليّ أن أكون حريصاً في معاملتها

وعليّ أن انسحب من حياتها، أو إخراجها من حياتي بلا جلبة أو ضوضاء

يجب أن أخرج من دائرة اللهيب، من دائرة الشهوة الآثمة

-وسهير سأعمد ألا أكون في المكتب إلا بحضور أحد، حتى أتجنب الانفراد معها، لأن الانفراد هو الذي يجعل المجال مفتوحاً

******

حديث الناس حول حديد البناء الذي ارتفع من أربعمائة وخمسين دينار للطن إلى ستمائة وخمسين دينار، وكان أكثر المتضررين من لم يتمكنوا من شرائه في السعر الأول والأكثر تضرراً أصحاب المقاولات الكبيرة.

قال أبو نجيب وقد وضع ذقنه على راحة يده لتحمل ما في رأسه من أفكار أثقلته:

-الحديد ارتفع مائتا دينار للطن هذه كارثة

قال شريكه سليمان القشة:

-قال لي جمال حفيظة المعروف في مصنع الحديد، أنه سيرتفع ويرتفع حتى يصل الألف دينار

صاح أبو نجيب:

-هذا خازوق مبرشم

أسقط في يد الشركاء الثلاثة، وانقلب السحر على الساحر قال أبو نجيب:

-والعمل

قال أبو محمود الدرعي وهو الرأس المدبر والمفكر في الشركة:

-أرى أن نعمد إلى تقليل كمية الحديد كما فعلنا في مشروع الرابية

قال أبو نجيب:

-ولكن كونوا حريصين

قال سليمان القشة: 

-وهكذا نقلل مخاسرنا

قال الدرعي :

-بل ونربح

كان أبو نجيب وشركاؤه، بعد أن ينهي عمال الطوبار من وضع الحديد في السقوف، وكما هي المواصفات حيث العدد والسمك، تكون جاهزة لصبة الباطون، فيرى المهندس المشرف لصاحب المشروع الذي يقوم بالتأكد من وضع الحديد حسب المواصفات السليمة للبناء حسب المخططات، فيأخذون منه الموافقة، ويغادر المكان، وحتى يبعدون الشك عنهم يغادرون الموقع معهم.

ثم يعودون تحت جنح الليل بسحب ما يريدون من قضبان الحديد المثبتة، بعد قطع أسلاك الشد والربط، ومقدار ما يسحبون من القضبان بثلث الكمية، وفي الصباح تكون خراطيم الصبة الجاهزة تفرش السقوف، حيث يكون عمال الباطون يوزعون الباطون على الأسطح بهمة ونشاط.

قال أبو نجيب مبدياً ارتياحه مما تم فعله:

-هكذا نضمن عدم الخسارة

لم يتأثر جابر بارتفاع الحديد لأنه حسب حساباته جيداً، فاشترى كميات كبيرة، ألف طن كمية تكفيه لعدة مشاريع مهما ارتفع الحديد أو انخفض في الأمان أو كما يحلو له أن يقول أنا في السليم.

ازدادت المشاريع التي عُرضت عليه وقبلها حتى توسعت اتساعاً كبيراً، وبخاصة حينما رسا عليه بناء إسكان المدينة للاستثمار والعمران.

كان مشروعاً ضخماً ست عمارات، كل عمارة من خمسة طوابق، لم يعط جابر الموافقة على هذا المشروع الذي يكلف الملايين من الدنانير، يجب أن يقوم بوضع دراسة تبين الجدوى الاقتصادية.

مجموعة من موظفيه من ذوي العلاقة (المهندسون، والمحاسبون، المشتريات) وكان جابر يجلس بينهم وهو يقرأ عليهم المواصفات.

قال جابر:

-ست عمارات كل عمارة خمسة طوابق وكل طابق يتألف من شقتين، مساحة الشقة مائة وخمسون متراً مربعاً، ارتفاع الطابق ثلاثة أمتار

ثم نظر إلى معلم البناء وقال:

-سجلت ما قلت

قال معلم البناء أبو يحيى العمواسي:

-كله مسجل

-عال العال

-احسب ما يلزم من حديد، واحسب الطوب، وكذلك الحصمة، والمسامير والأسلاك، ولا تنسى شيئاً

ثم رفع رأسه وقال:

-الأساسات كن حذراً وأنت تحسب حساب القواعد خمسة طوابق ليست أمر بسيط

بعد يومين من العمل الشاق في التدقيق، أصبحت الأمور واضحة امام جابر، وسمى هذا المشروع مشروع العمر.

******

أبو نجيب يجلس في مكتبه وإلى جانبه الأرجيلة، يسحب نفساً فتقرقر ثم ينفث الدخان، فيملأ جو غرفة المكتب بالدخان وهو يلف حبل الأرجيلة حول عنقها:

-لقد رسا مشروع إسكان المدينة للاستثمار على جابر طعم وابتلعه

قال الدرعي:

-أي طعم يا أبا نجيب؟!

هز أبو نجيب رأسه طرباً وقال:

-على نفسها جنت براقش، لأن هذا مشروع ضخم، يحتاج إلى الآلاف الدنانير، وصاحب المشروع وضع شروطاً تعجيزية، سواء كان في المواصفات، أو في فترة الإنجاز إنه يضع المقاولين في موقع التحدي، هذا المشروع هو قاصمة الظهر لجابر

قال سلمان القشة موافقاً:

-يا أخي، إذا كان الواحد قدرته على حمل مائة كيلو ماذا لو حمل مائتين وخمسين؟!

قال أبو نجيب:

-تطحنه

-وهذا ما سيؤول إليه المسكين

قال أبو نجيب:

-لهذا كنت فرحاً حين رسا المشروع على جابر حتى نرى من يضحك في النهاية

 جابر في مكتبه يجلس إلى جواره المهندس عبدالفتاح وأمامه مخططات مشروع المدينة، قال جابر:

-خمس عمارات، كل عمارة خمسة طوابق، والطابق يتكون من شقتين، وكلما أنجزنا طابقاً وانتقلنا إلى الطابق الثاني يقوم النجارون بوضع حلوق الأبواب، كما يقوم الكهربائيون بتمديد المواسير التي تمر بها أسلاك الكهرباء، ويقوم عمال الألمنيوم بعملهم وعندما ينتهون، يقوم عمال القصارة بالعمل وهكذا، لا نكاد ننتهي من الطابق الخامس إلا والطوابق الأربعة تنتظر تركيب الأبواب والشبابيك، ويتم تمديد تمديدات المياه كل ما يلزم في الحمامات والمطابخ، وتركيب خزائن المطابخ وما يلزم الحمامات وتمديدات الكهرباء، ولا يبقى إلا الطراشة والدهان.

قال المهندس عبدالفتاح:

-هذا أفضل تخطيط لاكتساب الوقت

قال جابر برزانة:

-ولكن نريد همتك، وحث العمال على سرعة الإنجاز مع مراعاة المواصفات المطلوبة

-إن شاء الله سيكون كل شيء على ما يرام

كان اهتمام جابر باتجاه المشروع الكبير، اهتماماً كبيراً، وأي تهاون يكلفه الكثير، فكان حريصاً على متابعة العمل، رغم تفاني المهندس عبدالفتاح والعمال.

إضافة إلى رغبة عمال البناء والطوبار في العمل الدؤوب حيث أنهم كانوا يعملون ساعات إضافية، لهذا كان العمل يسير بشكل ممتاز حتى تم إنجاز خمس عمارات في وقت خيالي.

قال المهندس عبدالفتاح بثقة واعتزاز:

-طالما أن المواد جاهزة، والآلات موجودة والعمال يقومون بواجبهم فإن الأمور تسير سيراً جيداً

قال جابر مؤكداً ما قاله المهندس عبدالفتاح:

-هذا صحيح، فإنه ما يربك العمل، نقص المواد وعدم وجود الآلات وكذلك توفر أجور العمال، لأن العامل إذا لم يأخذ أجره أو تأخر ينعكس على العمل

عمارتان جاهزتان أو كما يقول المقاولون "تسليم مفتاح" وتم تسليمهما لأصحاب المشروع الذين لم يجدوا ما يثير حفيظتهم، مما جعل صاحب المشروع يقول لجابر وهو يشد على يد جابر:

-والله أنك كفيت ووفيت

قال جابر بثقة:

-شعارنا الصدق والأمانة، وكل ما نرجوه رضاء عميلنا 

قال صاحب المشروع الحاج عبدالرحيم:

-إن شاء الله العمارات الباقية تكون مثل هاتين العمارتين

-توكل على الله... فإن الله يحب إذا عمل أحد عملاً أن يتقنه

-على بركة الله


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي

قراءة لرواية انفاس الخزامى