الريح العقيم ( الجزء الخامس عشر)

                               الريح العقيم 

                                   رواية 

                        محمد حمودة زلوم 

                      الجزء الخامس عشر 


جابر في بيته، كان يداعب طفله كمال، والطفل يملأ البيت بشراً وسروراً، ويملأ قلب أبيه بالسعادة، قال زوجته ليلى:

-من زمان لم تجلس وتداعب كمال

فأضاف جابر:

-ولم أجلس مع سيدتي الجميلة

قالت ليلى:

-السيدة الجميلة تقدر حال زوجها وهي ترأف بزوجها لكثرة أعماله، وتخاف عليه من الإرهاق.

قال جابر:

-الحمد لله الذي أعطاني إياك، ولكنني أعرف أني اظلمك 

قالت بتودد:

-توكل على الله

قال جابر:

-لا... يجب عليّ أن أجعل يوماً لقضائه معكم... فإني أحس أنني احيا في الجنة

قالت مؤكدة:

 -تفعل خيرا.... فإن لجسدك عليك حقاً.

وأكمل جابر:

-ولأهلك عليك حقاً

******

قبل الموعد المحدد بشهر ونصف تقريباً، تم إنجاز المشروع كاملاً، في ضاحية من أجمل ضواحي عمان حيث أكثر الشقق التي أقيمت في البداية تقطنها عائلات ميسورة الحال.

الحدائق الجميلة، مزروعة بأشجار الزينة والورود، كان جابر مع صاحب المشروع الحاج عبدالرحيم الخطيب وشركاه واقفين يغمرهم سرور باد يطفح من وجوههم.

قال جابر والابتسامة تشع من وجهه:

-هكذا نكون قد أنهينا ما علينا

قال عبدالرحيم الخطيب:

-وبقي ما علينا وناول جابر شيكاً بالمبلغ المتبقي والمتفق عليه

قال جابر:

-أسأل الله أن يوفقكم بهذا المشروع الضخم

تنفس جابر الصعداء، عندما سلم مفاتيح العمارات لصاحب الشركة الاستثمارية، وأحس براحة كبيرة تغمره، لهذا الإنجاز الذي لولا إخلاص الموظفين لديه لما تم، لهذا قرر أن يكافئهم لما بذلوه من تفان في العمل.

لقد كانت فرحة العمال والمهندسين كبيرة، قال المهندس عبدالفتاح بارتياح:

-لقد غمرتنا بكرمك يا أخ جابر

قال جابر:

-إنكم تستحقون أكثر من هذا، الله يعطيكم العافية فإنكم لم تقصروا

عندما سمع أبو نجيب بما حققه جابر، غلت مراحل الحسد في قلبه وفي قلوب شركائه

قال أبو نجيب بتأفف:

-اكيد أنه استطاع بدهائه أن يلعب بالمواصفات 

قال شريكه الدرعي:

-لا أظن ذلك، فأنا أعرف المهندس المشرف على المشروع فهو صارم ولا يحابي أحداً، ثم إننا حاولنا شراؤه، فأبى ذلك، فلم يخبر جابر بما جرى بيننا وبينه.

-إن جابر سبب لنا عقدة نفسية

-ترسو علينا العطاءات فنخسر أو بالكاد نربح القليل بينما جابر ترسو عليه العطاءات فينجح

قال الدرعي:

-أرى أن نُخرج جابر من رؤوسنا

وقف أبو نجيب ثائراً:

-كيف أخرجه من رأسي وقد عشش فيه، والله يا أنا أو هو في الميدان

عندما رأت سهير أن جابر كان لم يعد يهتم بها،  ولا يحادثها إلا في شؤون العمل، أخذت تنسحب من حياته شيئاً فشيئاً.

وحلق خيالها في أن تبحث عن حب جديد، فجابر متزوج، فهي تريد رجلاً يكون لها وحدها.

فتذكرت فريد، المهندس في عمان الذي رآها عندما مرّ على مكتب جابر، وكان جابر غير موجود، فلما رآها على الكمبيوتر تعمل بمهارة، أعجب بعملها وقال:

-هل تعرفين فتاة ماهرة مثلك؟

فقالت بحياء:

-لا، ولكن إذا طلبت مني سأكون تحت أمرك

-وجابر؟!

-جابر، رجل ممتاز ولكنني إذا رأيت من يقدر جهدي فما المانع؟

المهندس فريد كان يتمنى أن يجد فتاة تتقن العمل وهو بحاجة ماسة لمن تقوم بالعمل معه بمهارة ودقة.

فقال بعد أن رأى موافقتها:

-ولكن عليك ألا تخبري جابر بذلك

-أمهلني حتى نهاية الشهر

-لك ما تريدين

ثم أخرج من جيبه بطاقة تحمل اسمه وعنوانه ورقم جواله وأردف قائلاً:

-خذي هذه البطاقة، واتصلي بي عندما تنهين عملك من عند جابر

-إن شاء الله

قال بثقة:

-سأعطيك زيادة على ما يعطيك جابر

وفي تلك الأثناء دخل جابر وبرفقته المهندس عبدالفتاح وهو يقول:

-المهندس فريد في مكتبنا يا مرحباً يا مرحباً

قال فريد:

-لقد جئت إليك خصيصاً لتهنئتك بانتهائك من المشروع الأخير

-بارك الله فيك

-إإذن لي، فإني جئت من عمان لزيارة أبي وامي ورأيت أنه من الواجب أن آتي وأهنئك 

-نكسبك عندنا الليلة

-لا لا اسمح لي، كرمك معروف، ولكن أمي وأبي بانتظاري إن شاء الله في مناسبة قادمة.

-على بركة الله

خرج المهندس فريد، وبقي جابر وسهير، فقال لها بزران:

-انهيت الأوراق

-نعم

-تستطيعين الرواح إن شئت

قدمت سهير استقالتها وتركتها على مكتب جابر، فلما جاء جابر إلى المكتب فاجأه أمر استقالة سهير فقال:

-خير؟ هل رأيت منا ما يدفعك إلى الاستقالة؟

قالت بحياء:

-أبداً لم أرَ منك إلا كل خير وتعاون ولكن هناك أمور لا تعرفها جعلتني أبحث عن مكان آخر

قال جابر:

-المهم أن تكوني أنتِ راضية عما تفعلين

ثم فتح سجل الموظفين والعمال، وبعملية حسابية ناولها حسابها من أجر وهو يقول:

-أتمنى لك السعادة، وإذا لم تجدي عملاً فمكانك محفوظ

-أشكرك سامحني

خرجت سهير من المكتب، وأفكار شتى تدور في رأسها، بينما كان جابر يقول لنفسه:

-لقد ذهبت آخر حماقاتي ثم انفجر ضاحكاً

في صباح اليوم التالي، كانت سهير تقف بكامل زينتها في مجمع الأمير راشد، لتركب سيارة عمان-الزرقاء، كانت تقصف في عقلها أفكار مجنحة، طلعت بخيالها عالياً، فريد لن يقول لها أهلاً بل إنه سيضمها إلى صدره.

إنه فارس الأحلام الحقيقي وليس مثل جابر المتزوج الذي يريد التسلية والعبث ليس إلا، وحتى إذا لم يكن عابثاً فكيف يشاركني بامرأة ثانية، وعلى كل حال فإن المهندس فريد شاب وسيم أنيق، فأفاقت من على صوت السائق:

-يا آنسة وصلنا تفضلي بالنزول

افاقت من تأملاتها وهي تبتسم:

-آسفة آسفة

وقفت في مجمع السيارات، وسارت باتجاه سيارة المكتب وقالت له:

-شارع المدينة المنورة قرب مجمع النورس

قال السائق:

-تفضلي

ركبت وراعها ازدحام الطريق بالسيارات والمارة، والعمارات الشاهقة بواجهاتها الحجرية الجميلة، ثم توقف السائق وقال:

-هذا مجمع النورس... تفضلي

ناولته الأجرة ثم نزلت من السيارة وأخذ يجول بصرها تبحث عن مدخل العمارة، سألت شاباً واقفاً امام العمارة وقال:

-من فضلك أين مدخل العمارة؟

أشار الشاب إلى مكان المدخل فشكرته، ورأت المصعد على بابه ينتظر رجل في الستين من عمره وفتاة في العشرين ، يبدو أن الرجل أبوها، فتح باب المصعد ودخل الثلاثة فيه. قال الرجل:

-أي طابق تريدين؟

قالت بابتسامة حائرة:

-الطابق الرابع

ضغط الرجل على الطابق الثاني والرابع وصعد المصعد فتوقف فنزل الرجل وابنته ثم تابع المصعد سيره حتى رن الجرس وفتح الباب، وخرجت من المصعد لتقف في ممر طويل سارت في الممر تقرأ القارمات على الأبواب حتى توقفت أمام شركة الثقة المهندس فريد أبو السندس مقاولات ، إشراف، تصاميم، دقت الباب فسمعت صوتاً نسائياً يقول:

-تفضل

دخلت فإذا بها أمام فتاة في العشرين:

-صباح الخير

-أهلاً صباح النور

-انا قادمة بناء على طلب المهندس فريد

-المهندس فريد في موقع العمل وسيأتي بعد نصف ساعة

فإذا جوال الموظفة يخرج منه موسيقى هادئة، قالت إنه الباش مهندس ثم قالت:

-صباح النور

-نعم إنها في المكتب إنها بانتظارك

أنهت المكالمة ثم قالت الفتاة:

-إنه في الطريق إلى هنا

ثم تابعت الحديث:

-لقد أخبرني الباش مهندس عنك

قالت سهير:

-هل العمل يحتاج إلى اثنتين؟

-أبداً ولكنني مخطوبة، واشترط الخاطب أن أترك العمل، ولما أخبرت المهندس بالأمر، قال لي لا مانع عندي، ولكن أمهليني حتى نجد من تقوم بمقامك وها أنتِ جئتِ.

ابتسمت سهير ابتسامة مجاملة وقالت:

-أرجو لك التوفيق والسعادة

-عقبى لك

ابتسمت سهير ابتسامة خجولة وقالت:

-شكراً لك

طرق الباب فإذا هي وجهاً لوجه أمام المهندس فريد وابتسامة تشرق من وجهه وهو يقول:

-أهلاً بك

-أهلاً

-أكيد الأخت سلمى أخبرتك قصتها

هزت سهير رأسها بالإيجاب وقالت:

-أتمنى لها السعادة والتوفيق

قال المهندس فريد موجهاً حديثه إلى سلمى:

-أخت سلمى أرجو منك، أن تطلعي الآنسة سهير على مجريات العمل، وأن تريها ما بقي من أعمال لم تكمليها

قالت سلمى:

-حاضر

تابع المهندس قائلاً موجهاً الحديث إلى سلمى:

-ستظلين معنا إلى آخر الأسبوع

-إن شاء الله

قال فريد:

-في الواقع أنا جئت للمكتب من أجل الآنسة سهير لتعرف ما يجب عليها القيام به.

ثم توقف قليلاً وتابع القول:

-يجب أن أكون في الموقع، لأشرف بنفسي على العمل

ثم ودعهما وغادر المكتب

قالت سلمى:

-الباش مهندس، إنسان طيب ، دقيق في عمله وتصوري أنه ذات يوم، هدم الطابق الأول في إحدى البنايات التي يشرف عليها لنقصان عدد قليل من قضبان الحديد، وطرد المهندس الذي يعمل معه ووبخه...

من يعمل معه لا يشعر بالملل، فهو دقيق في عمله وشعاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يجب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

سلمى مسترسلة في صوتها بينما سهير تهز رأسها إعجاباً ودهشة، قالت سهير:

-المخلصون في عملهم قليلون هذه الأيام

-فعلاً، فكم سمعت عن عمارات تنهار على ساكنيها صدقيني هنالك عمارات من الغش تسقط أثناء بنائها.

بقيت الفتاتان تتحادثان حتى حان موعد الغداء.

ودعت سلمى المهندس فريد وسهير وتمنيا لها حياة زوجية سعيدة، شكرتهما بينما كانت دموع حائرة تدور في عينها

لما خلا المهندس فريد وسهير قال:

-كانت سلمى فتاة بسيطة، ذكية، ولما رأيتك في مكتب جابر تعملين بحذق ومهارة، دخلت في رأسي وقررت أن أسرقك منه.

حدق في عينها بُرهة فعرّضت طرفها فقال:

-أكيد لم تفطري بعد؟

-إنني لا أخرج من البيت إلا وأتناول فطوري

-سأتركك الآن ولكن لن أغيب طويلاً

غمرت سهير سعادة، فقد أحست أن المهندس معجب بها، يحادثها برفق، فقامت بتوزيع خصلات شعرها ثم جلست أمام الكمبيوتر كأنها تراجع ما هو مثبت منه، عاد فريد يحمل طعاماً فقال بلهفة:

-هيا... على ما قسم الله

-كل بالهنا... فأنا شبعانة

قال بإلحاح:

-أن لم تشاركيني فلن آكل... لا تخجلي حتى يصير بيننا ملح

قالت والبسمة تزهر على شفتيها:

-أمري لله

وأخذ يناولها قطع الشواء بتؤوده  وببطء شديد قال فريد:

-ألم يعجبك الشواء

قالت:

-أبداً إنه شهي ولذيذ

بعد انتهائهما من تناول الطعام قال فريد:

-الآن نستطيع العمل

حمل مجموعة من الأوراق وقال لها:

-أريد طباعة هذه الأوراق

-حاضر

يتبع .......


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي

قراءة لرواية انفاس الخزامى