الريح العقيم (الجزء الثاني عشر)

                            الريح العقيم 

                                      رواية 

                         محمد حمودة زلوم 

                         الجزء الثاني عشر 


عفيف المسلم، لم يرد أن يطلع جابراً على ما دار بينه وبين أبو محمود الدرعي، وحدثته نفسه إن فعل، سيجعل طيور الشك تعيش في قلب جابر، يكفيه أنه رفض أن يخون جابر، ولن ينسَ أيادي فضله الكثيرة.

ولا يزال موقف جابر منه حينما مات أبوه، يقف إلى جانبه، بل إنه قام بصنع طعام الميت في اليوم الأول، بل إنه كان شهماً حينما مرض ابنه البكر، فقام بمواساته ودفع تكاليف العلاج عن طيب خاطر، بل كان معه كريماً وسخياً، يرسل إليه من إنتاج مزرعته زيتوناً وكمثرى،  وعنباً وغير ذلك.

يكفيه أنني سأظل صادقاً معه أميناً على مصالحه، ويكفيني أن يكون رزقي حلالاً طيباُ، يباركه الله وتذكر ما قاله ذات يوم أبوه عليه الرحمة: "قيل يا رسول الله الحلال يذهب قال نعم والحرام يذهب ويذهب معه صاحبه إلى النار".

شعر بالسعادة والراحة لما آل إليه وغمره شعور بالفخر والاعتزاز وهو يردد الحمد لله.

كانت سهير في المكتب، وقد تألقت كعروس، خلعت منديلها وأسرحت شعرها لينسدل على كتفيها تقرأ في جريدة اليوم، وكم كان سرورها حينما وقفت عيناها على إعلانات وزارة الأشغال لإنشاء مجمعين تجاريين في عمان.

ولما دخل جابر المكتب وسأل عن أبي مسعود موظف المكتب فأخبرته سهير:

-لقد ذهب لشراء فطور له

ثم أردفت متسائلة وهي تناوله الجريدة:

-وزارة الأشغال نشرت إعلاناً لإقامة مجمعين للدوائر الحكومية في عمان

أخذ الجريدة ثم جلس وراء مكتبة وأخذ يقرأ الإعلان و بعد انتهائه من القراءة قال لها:

-عندما يجيء السيد عفيف المسلم أخبريه إن لم أكن هنا أن يقوم بدراسة العرض جيداُ

-إن شاء الله

قال جابر:

-إن شاء الله العمل مريح

قالت والبسمة تضيء وجهها:

-عال العال، فمن يعمل معك يشعر براحة وطمأنينة كبيرتين

حدق في عينيها الخضراوين الساحرتين فاعتراها الحياء فقال بجرأة:

-أتعرفين أنك جميلة، بل رائعة الجمال

قالت بصوت لا يكاد يسمع:

-شكراً لهذا الإطراء

قال:

-صدقيني إنك جميلة، وصوتك عذب

قالت:

-لا تجعلني أصدق نفسي

قال مؤكداً: 

-بل صدقي

في تلك اللحظة دخل أبو مسعود المكتب وحيا جابر والآنسة سهير.

قال جابر مخاطباً سهير:

-انتبهي وأنت تقومين بطباعة الأوراق لا أريد أية أخطاء ولا أريد إضاعة الوقت سدى

-حاضر

أبو مسعود رجل تعدى الستين، قبل عام أجرى عملية قلب مفتوح في المدينة الطبية، ضعيف الجسد وافق جابر على تشغيله في المكتب ليساعده من بؤسه، ومرضه يقوم بفتح المكتب صباحاً، ينظف المكتب، ولظروفه الصحية أرخى له جابر العنان، يأتي متى يشاء ويغيب متى شاء. لكنه كان يواظب على المجيء إلا إذا انتابه التعب، وأقعده عن الحركة، فيبقى في منزله للراحة 

وأخذ الدواء.

******

في الساعة الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم بينما كان الدكتور طلال مستريحاً في عيادته، اتصل بجابر:

-أهلاً دكتور

-أهلا بك

قال الدكتور وهو يعلن عن فرحه بضحكة كبيرة تعبر عن مدى سعادته:

-اسمع يا أخي، اليوم مساء أنت مدعو لبيتنا، احتفالاً بانتقالنا إليه، نتناول طعام العشاء معاً اعترافاً بفرحنا واعترافاً بوقوفك إلى جانبنا

-سأرى

احتد صوت الدكتور وقال:

-لن نقبل أي عذر!!

-لكن!!

-لا لكن ولا غيره ننتظرك مساء

كانت المائدة ملأى بالأطعمة الفاخرة رز ولحم، محشي كوسا ورق دوالي، دجاج مشوي.

قال الدكتور مخاطباً جابر:

-أهلاً وسهلاً... تفضل

-لا تخجل ... 

كانت نادية مقبلة تحمل شاف ماء وتضع كاسات فتابع زوجها الحديث:

-وأنتِ اجلسي وتناولي طعامك معنا

قال جابر مخاطباً الدكتور:

-أهنئك يا دكتور، فإن زوجتك طاهية ماهرة

شعرت نادية بالزهو وهي تسمع كلمات الإطراء فقال الدكتور ضاحكاً:

-الحمد لله... فيه العافية... وتابع ثلاثتهم الأكل

قال جابر:

-سفرة دايمة

-كل يا رجل، لا يزال كثير باقياً

-كثر الله عليكم الخير

رست المناقصة التي نشرتها الصحف على شركة أبي نجيب وشركائه، مما أثلج صدر أبي نجيب وشركائه، واحتفل الشركاء بهذه المناسبة، ليس لأن الاختيار وقع على شركتهم بل لأن جابر أبعد عنها، قال أبو نجيب بزهو وخيلاء:

-واخيراً انتصرنا، وفزنا، أكيد أن جابر الآن في حالة لا يحسد عليها

قال أبو محمود:

-الآن جابر يعض أصابع الندم

رد عليه أبو نجيب وقد علا ضحكه:

-منذ الآن سنعرف كيف نداويه حتى يتعلم كيف تكون منافسة الرجال، تفضلوا أيها السادة اشربوا نخب هذه المناسبة السعيدة

أقبل الجميع يشربون الخمر وهم يأكلون الفستق والكاشو والبندق حتى دارت الكؤوس بالرؤوس، قال أبو نجيب:

-اشربوا حتى يسكر الليل

ضحك الشركاء وعلا ضحكهم، وبقوا على هذه الحال المزري حتى ساعة متأخرة من الليل.


يتبع ........


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الريح العقيم رواية (الفصل الاول)

التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي

قراءة لرواية انفاس الخزامى